چهارشنبه, 27 شهریور 1392 16:05

قسمت 11

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)

ثمّ رفع أمير المؤمنين عليه السّلام يديه فدعا علی طلحة و الزبير و قال:

اللّهمّ احكم عليهما بما صنعا في حقّي و صغّرا من أمري و ظفّرني بهما، اللّهمّ خذهما بما عملا أخذة رابية و لا تنعش لهما صرعة و لا تقلهما عثرة و لا تمهلهما فواقا، اللّهمّ إنّهما قطعاني و ظلماني و ألّبا الناس عليّ و نكثا بيعتي فاحلل ما عقدا و لا تحكم لهما ما أبرما و لا تغفر لهما أبدا و أرهما المساءة في ما أملا و عملا.

اللّهمّ إنّي أقتضيك وعدك فإنّك قلت و قولك الحق: و من بغي عليه لينصرنّه اللّه، اللّهمّ فأنجز لي موعدي و لا تكلني إلی نفسي إنّك علی كلّ شي‏ء قدير «1».

فهذه المقالات المباركة الحاكية عن شدّة ألمه و هو حليم ذو أناة بعض من خطبة طويلة خطب بها بعد ما بلغه نكث طلحة و الزبير للبيعة و قدومهما للبصرة، و قد اشتملت مواضع كثيرة منها علی توبيخهما علی نكث البيعة، كلّ منها دليل علی عدم جواز النكث، و قد اشتملت علی أنّهما زادا علی مجرّد النكث بجمع قوم و أرادا البغي و الفساد في الأرض لكنّه معصية اخری و لا ينافي وجوب الوفاء بالبيعة و كون النكث بنفسه ذنبا كما مرّ.

فتری أنّه عليه السّلام قد دعا عليهما و طلب من اللّه تعالی أن لا يغفر لهما أبدا مفرّعا علی أنّهما نكثا بيعته.

و قال فيهما: إنّهم إن تابوا و أنابوا فالتوبة مقبولة، و إن أبوا أعطيتهم حدّ السيف الشافي من الباطل و الناصر للحقّ.

و قال: إنّه وبّخهم بنكثهم و عرّفهم بغيّهم و مع ذلك دعوه إلی السخط فحلّ قتالهم.

و قال عليه السّلام منيبا إليه تعالی: إنّ طلحة و الزبير و عائشة بايعوني و نكثوا بيعتي و هم يعلمون أنّي علی الحقّ و أنّهم مبطلون.

و قال عليه السّلام- فيما إذا أتياه مستأذنين في ظاهر كلامهما للمسير إلی زيارة عمرة-: فجدّدت عليهما العهد في الطاعة و أن لا يبغيا للأمّة الغوائل فعاهداني، ثمّ‏

                       

لم يفيا لي و نكثا بيعتي و نقضا عهدي ... إلی غير ذلك.

فذكره عليه السّلام كرارا لنكث البيعة و توبيخهما عليه و استتابتهما منه و تجويزه لقتالهما به و طلب عدم غفرانهما به من اللّه كلّ ذلك دليل علی عظم أمر البيعة و كون النكث لها ذنبا عظيما.

نعم لا دلالة في شي‏ء من هذه الموارد و لا غيرها علی اشتراط فعلية ولاية المعصومين عليهم السّلام و لا وجوب الإطاعة لهم بالمبايعة و يكون مقتضی الأدلّة فيهما باقيا علی حاله.

10/ 6- و منها قوله عليه السّلام في خطبة طويلة في تعريف الإسلام و الإيمان و الكفر و النفاق:

ففي أثناء هذه الخطبة قام إليه رجل فقطع عليه كلامه و قال: يا أمير المؤمنين أخبرنا علی م قاتلت طلحة و الزبير؟

فقال عليه السّلام: «قاتلتهم علی نقضهم بيعتي و قتلهم شيعتي من المؤمنين: حكيم بن جبلة العبدي من عبد القيس، و السبابجة و الأساورة بلا حقّ استوجبوه منهما و لا كان ذلك لهما دون الإمام، و لو أنّهما فعلا ذلك بأبي بكر و عمر لقاتلاهما، و لقد علم من هاهنا من أصحاب النبيّ صلّی اللّه عليه و آله أنّ أبا بكر و عمر لم يرضيا ممّن امتنع من بيعة أبي بكر حين بايع و هو كاره و لم يكونوا بايعوه بعد الأنصار، فما بالي و قد بايعاني طائعين غير مكرهين. و لكنّهما طمعا منّي في ولاية البصرة و اليمن، فلمّا لم اولّهما و جاءهما الّذي غلب من حبّهما الدنيا و حرصهما عليها لما خفت أن يتخذا عباد اللّه خولا و مال المسلمين لأنفسهما دولا فلمّا زويت ذلك عنهما و ذلك بعد أن جرّبتهما و احتججت عليهما» «1».

                       

فتری أنّه عليه السّلام علّل قتالهما بأنّهما و قومهما نكثوا البيعة و كان سرّ هذا النكث حبّ الدنيا و الحرص عليها، فهو ظاهر الدلالة في أنّ الوفاء بالبيعة واجب و نكثها ذنب عظيم.

لكنّه لا دلالة فيه أيضا علی الاشتراط المذكور.

11/ 6- و منها ما ذكره عليه السّلام في كتاب له إلی معاوية من قوله: ثمّ إنّ طلحة و الزبير بايعاني في المدينة ثمّ نقضا بيعتهما، و كان نقضهما كردّتهما، فجاهدتهما علی ذلك بعد ما أعذرت إليهما حتّی جاء الحقّ و ظهر أمر اللّه و هم كارهون «1».

فتراه عليه السّلام ذكر عنهما نقض البيعة و رتّب عليه أنّه عليه السّلام جاهدهما علی ذلك، فجعل نقض البيعة موجبا للقتال للناقض و هو لا يكون إلّا إذا كان النقض ذنبا عظيما، فدلالته علی وجوب الوفاء بالبيعة تامّة.

نعم لا دلالة فيه علی اشتراط فعلية الولاية أو وجوب إطاعة الوليّ المعصوم بالبيعة له.

12/ 6- و منها قوله عليه السّلام في كتاب طويل أمر أن يقرأ علی الناس كلّ يوم جمعة: ... فبايعتموني يا معشر المسلمين علی كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّی اللّه عليه و آله و فيكم المهاجرون و الأنصار و التابعون بإحسان، و بلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير و هدج إليها الكبير و تحامل نحوها العليل و حسرت إليها الكعاب.

فكان أوّل من بايعني طلحة و الزبير، فقالا: نبايعك علی أنّا شركاؤك في هذا الأمر، فقلت: لا، و لكنّكما شريكان في القوّة و الاستعانة و عونان علی العجز و الأود، فبايعاني علی هذا الأمر و لو أبيا ما أكرهتهما كما لم اكره غيرهما، و كان طلحة يرجو اليمن و الزبير يرجو العراق، فلمّا علما أنّي غير مولّيهما لم يلبثا إلّا يسيرا حتّی استأذناني للعمرة و هما يريدان الغدرة، فأتيا عائشة و استخفّاها مع شي‏ء كان في نفسها عليّ ....

                       

و قادهما عبد اللّه بن عامر إلی البصرة و ضمن لهما الأموال و الرجال، فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله كما تجرّ الأمة عند شرائها متوجّهين بها إلی البصرة، فبيناهما يقودانها إذ هي تقودهما فاتخذاها دريئة يقاتلان بها ....

فأصابوا ثلاثا بثلاث خصال مرجعها علی الناس في كتاب اللّه عزّ و جلّ:

البغي و النكث و المكره قال اللّه تعالی: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلی‏ أَنْفُسِكُمْ و قال: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلی‏ نَفْسِهِ و قال: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فقد و اللّه بغيا عليّ و نكثا بيعتي و مكرا بي.

ثمّ أتوا البصرة في جيش ما منهم رجل إلّا و قد أعطاني الطاعة و سمح لي بالبيعة طائعا غير مكره، فقدموا علی عمّالي بها و خزّان بيت مال المسلمين الّذي في يدي و علی غيرهم من أهل مصري الّذين كلّهم مجتمعون في طاعتي و علی بيعتي و بها شيعتي فدعوا الناس إلی معصيتي و إلی نقض بيعتي و طاعتي، فمن أطاعهم أكفروه، و من عصاهم قتلوه، فشتّتوا كلمتهم و أفسدوا عليّ جماعتهم ...

ثمّ أخذوا عاملي عثمان بن حنيف أمير الأنصار غدرا فمثّلوا به كلّ المثلة و نتفوا كلّ شعرة في رأسه و وجهه و وثبوا علی شيعتي من المسلمين فقتلوا طائفة منهم صبرا و طائفة منهم غدرا، و طائفة غضبوا للّه ولي فعضّوا علی أسيافهم فضاربوا بها حتّی لقوا اللّه صادقين، فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا متعمّدين لقتله بل جرم جرّه لحلّ لي قتالهم و قتل ذلك الجيش كلّه لرضاهم بقتل من قتل إذ حضروه فلم ينكروا و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد، دع أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة الّتي دخلوا بها عليهم، و قد أدال اللّه منهم فبعدا للقوم الظالمين ... فلمّا قضی اللّه لي بالحسنی سرت إلی الكوفة و استخلفت عبد اللّه بن عبّاس علی البصرة ...» «1».

فهذا المقال المبارك كما تری يبيّن أمر طلحة و الزبير بتفصيل لم نذكر كثيرا

                       

منه، و قوله عليه السّلام فيهما أنّهم أصابوا ثلاث خصال بيّن حكمها في الكتاب واحدها النكث الّذي قال اللّه تعالی فيه: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلی‏ نَفْسِهِ «1» فهذا القول يدلّ علی كون نكث البيعة ذنبا يقع ثقله علی عنق الناكث، فدلالته علی وجوب الوفاء بالبيعة تامّة.

نعم لا دلالة فيه علی اشتراط فعلية ولاية المعصومين عليهم السّلام و لا وجوب الإطاعة لهم بالبيعة، و هو واضح.

هذه هي الموارد الّتي تدلّ علی وجوب الوفاء بالبيعة ممّا وقفت عليه في نهج البلاغة و تمامه ممّا ورد في أمر طلحة و الزبير، و لعلّ المتتبّع الدقيق يظفر ببعض مواضع اخر فيهما.

و لمّا كان الكلام عن مسألة طلحة و الزبير فمن المناسب ذكر نقل آخر فيهما ممّا ليس في نهج البلاغة و تمامه فأقول:

13/ 6- و منها ما ورد عنه عليه السّلام في رواية جابر الطويلة من قوله عليه السّلام: ... و أمّا الخامسة يا أخا اليهود فإنّ المتابعين لي لمّا لم يطمعوا في تلك منّي وثبوا بالمرأة عليّ، و أنا وليّ أمرها و الوصيّ عليها، فحملوها علی الجمل ... في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاولی في حياة النبيّ صلّی اللّه عليه و آله حتّی أتت أهل بلدة ...

فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ... فقدّمت الحجّة بالإعذار و الانذار و دعوت المرأة إلی الرجوع إلی بيتها و القوم الّذي حملوها علی الوفاء ببيعتهم لي و الترك لنقضهم عهد اللّه فيّ ... فلمّا أبوا إلّا هي ركبتها منهم فكانت عليهم الدبرة و بهم الهزيمة و لهم الحسرة و فيهم الفناء و القتل ... «2».

فإنّ ذكر بيعتهم ثانية بعد الاولی اشارة الی أنّه كان عليهم الوفاء بكلّ من البيعتين و قوله ثانيا: «فقدّمت الحجّة بالإعذار و الإنذار و دعوت ... القوم الّذي‏

                       

حملوها علی الوفاء ببيعتهم لي و الترك لنقضهم عهد اللّه فيّ» فيه دلالة علی أنّ عليهم الوفاء ببيعتهم له عليه السّلام و إنّ نكث البيعة نقض لعهد اللّه تعالی، فلا محالة يكون الوفاء واجبا و نقضه ذنبا، و لذلك رتّب علی إصرارهم علی النقض مقاتلتهم الّتي أوجبت عليهم الفناء و القتل و الهزيمة.

فدلالته علی وجوب الوفاء بالبيعة تامّة. نعم لا دلالة له أصلا علی اشتراط فعلية ولايتهم أو وجوب إطاعتهم بالبيعة.

14/ 6- و منها ما في ذيل خطبة له عليه السّلام رواها البحار عن أمالي الشيخ الطوسي قدس سرّه قال عليه السّلام في طلحة: ... و ها هو ذا قد أعطاني صفقة يمينه غير مرّة ثمّ نكث بيعته، اللّهمّ فخذه و لا تمهله، ألا و إنّ الزبير قطع رحمي و قرابتي و نكث بيعتي و نصب لي الحرب و هو يعلم أنّه ظالم لي، اللّهمّ فاكفنيه بما شئت «1».

فتری أنّه عليه السّلام ذكر نكث كلّ واحد منهما ثمّ دعا عليهما و استدعی اللّه بقوله:

 «اللّهمّ فخذه و لا تمهله» أو «فاكفنيه بما شئت» و هو دليل علی أنّ نكث البيعة ذنب عظيم أوجب ارتكابه هذا الاستدعاء.

و هذه الخطبة أيضا و إن لم تكن مذكورة في نهج البلاغة إلّا أنّا ذكرناها لما مرّ في نقل رواية جابر. مع أنّها قريبة العبارة ممّا مرّ من خطبته الّتي خطب بها حينما بلغه خلع طلحة و الزبير بيعتهما و قد مرّت تحت الرقم 9/ 6.

15/ 6- و منها ما في البحار عن تفسير العيّاشي عن الحسن البصري قال:

خطبنا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام علی هذا المنبر و ذلك بعد ما فرغ من أمر طلحة و الزبير و عائشة، صعد المنبر فحمد اللّه و أثنی عليه و صلّی علی رسوله صلّی اللّه عليه و آله ثمّ قال: أيّها الناس، و اللّه ما قاتلت هؤلاء بالأمس إلّا بآية تركتها في كتاب اللّه، إنّ اللّه يقول: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ

                       

إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. أما و اللّه لقد عهد إليّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و قال لي:

يا عليّ لتقاتلنّ الفئة الباغية و الفئة الناكثة و الفئة المارقة» «1».

16/ 6- و منها ما فيه أيضا عنه عن الشعبي قال: قرأ عبد اللّه وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ إلی آخر الآية ثمّ قال: ما قوتل أهلها بعد، فلمّا كان يوم الجمل قرأها عليّ عليه السّلام ثمّ قال: ما قوتل أهلها منذ يوم نزلت حتّی كان اليوم 2.

17/ 6- و منها ما فيه أيضا عنه عن أبي عثمان مولی بني أقصی قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: عذرني اللّه من طلحة و الزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين ثمّ نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته، و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية مذ نزلت حتّی قاتلتهم وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ الآية «3».

فهذه الروايات الثلاث المنقولة عن أمير المؤمنين عليه السّلام- و لذلك نقلناها هنا- قد جعلت طلحة و الزبير و من تبعهما مصاديق للناكثين المذكورين في قوله تعالی:

وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ و قال عليه السّلام فيهم: «ما قوتل أهل هذه الآية مذ نزلت حتّی قاتلتهم يوم الجمل» فلا محالة نكثهم ذنب يوجب قتالهم، و من الواضح أنّ نكثهم كان نكثا للبيعة فيعلم منها أنّ نكث البيعة حرام عظيم.

نعم لا دلالة فيها أيضا علی اشتراط فعلية ولاية المعصومين أو وجوب إطاعتهم بالمبايعة لهم ....

18/ 6- و منها ما في البحار عن تفسير العيّاشي «4» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول: دخل عليّ اناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزبير، فقلت لهم: كانا إمامين من أئمّة الكفر، إنّ عليّا عليه السّلام يوم البصرة لمّا صفّ الخيول قال‏

                       

لأصحابه: لا تعجلوا علی القوم حتّی اعذر فيما بيني و بين اللّه و بينهم، فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جورا في حكم؟ قالوا: لا، قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا، قال: فرغبة في دنيا أصبتها لي و لأهل بيتي دونكم فنقمتم عليّ فنكثتم عليّ بيعتي؟ قالوا: لا، قال: فأقمت فيكم الحدود و عطّلتها في غيركم؟ قالوا:

لا. قال: فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث؟! إنّي ضربت الأمر أنفه و عينه و لم أجد إلّا الكفر أو السيف.

ثمّ ثنّی إلی أصحابه فقال: إنّ اللّه يقول في كتابه: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة و اصطفی محمّدا صلّی اللّه عليه و آله بالنبوّة إنّهم لأصحاب هذه الآية، و ما قوتلوا منذ نزلت «1».

و رواه بعينه الحميري في قرب الإسناد قال: حدّثني محمّد بن عبد الحميد و عبد الصمد بن محمّد جميعا عن حنّان بن سدير «2». و سنده صحيح و هذه الرواية في أصل الدلالة و حدودها مثل الروايات الثلاث الماضية آنفا.

19/ 6- و منها ما في تفسير العيّاشي عن أبي الطفيل قال: سمعت عليّا صلّی اللّه عليه و آله يوم الجمل و هو يحرّض [يحضّ- خ ل‏] الناس علی قتالهم و يقول: و اللّه ما رمی أهل هذه الآية بكنانة قبل هذا اليوم فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. فقلت لأبي الطفيل: ما الكناية؟ قال: السهم يكون موضع الحديد فيه عظم تسمّيه بعض العرب الكنانة ... «3».

و هذه الرواية أيضا مثل ما سبقتها من الروايات، فإنّ الفقرة المنصوصة فيها بعض تلك الآية فلا محالة يكون سرّ كونهم أئمّة الكفر هو أنّهم نكثوا أيمانهم‏

                       

و بيعتهم، فالكلام في دلالتها هو الكلام في دلالة ما سبق.

20/ 6- و منها ما رواه الشيخ الطوسي في أماليه بإسناده عن بكير بن عبد اللّه الطويل و عمّار بن أبي معاوية جميعا عن أبي عثمان البجلي مؤذّن بني أفصی- قال بكير: أذّن لنا أربعين سنة- قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول يوم الجمل: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ثمّ حلف حين قرأها إنّه ما قوتل أهلها منذ نزلت حتّی اليوم.

قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر عليه السّلام فقال: صدق الشيخ، هكذا قال عليّ عليه السّلام، هكذا كان «1».

21/ 6- و منها ما عن أمالي الشيخ المفيد بإسناده عن أبي عثمان مؤذّن بني أفصی قال: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام حين خرج طلحة و الزبير لقتاله يقول:

عذيري من طلحة و الزبير بايعاني طائعين غير مكرهين ثمّ نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته، ثمّ تلا هذه الآية: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ «2». و هو قريب ممّا نقلناه عن العيّاشي تحت الرقم 17/ 6.

و دلالة هذين الحديثين أيضا واضحة كما بيّناه فيما مرّ.

فهذه الروايات الكثيرة المنقولة عن أمير المؤمنين عليه السّلام تامّة الدلالة علی أنّ نكث البيعة ذنب و إنّما زدنا علی ما في نهج البلاغة و تمامه لو حدتها في هذا المدلول، و لعلّ المتتبّع يظفر بأخبار أكثر في هذا الموضوع عنه أو عن سائر المعصومين عليهم السّلام.

هذا تمام الكلام في الأخبار الدالّة علی وجوب الوفاء بالبيعة و الواردة في‏

                       

مسألة نكث طلحة و الزبير و ما له ربط ما بها. فالآن نرجع ثانيا إلی روايات اخر في هذا الموضوع و نقول:

7- و منها قول أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية جابر الطويلة الماضية: فقال عليه السّلام في كلماته في الصورة الثانية عند التعرّض لتخلّف بعض رجال امروا بأن يكونوا مع جيش اسامة فتخلّفوا و رجعوا فقال عليه السّلام فيهم: فخلّفوا أميرهم مقيما في عسكره و أقبلوا يتبادرون علی الخيل ركضا إلی حلّ عقدة عقدها اللّه عزّ و جلّ لي و لرسوله صلّی اللّه عليه و آله في أعناقهم فحلّوها و عهد عاهدوا اللّه و رسوله فنكثوه، و عقدوا لأنفسهم عقدا ضجّت به أصواتهم و اختصّت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منّا بني عبد المطّلب أو مشاركة في رأي أو استقامة لما في أعناقهم من بيعتي «1».

فإنّ تعبيره عليه السّلام بحلّ عقدة و عهد عقدها و عاهده اللّه في أعناقهم عبارة اخری عن وجوب التزامهم بهذا العقد و العهد، و قوله الأخير: «من غير ... استقالة لما في أعناقهم من بيعتي» دليل علی وجوب الوفاء بالبيعة و عدم جواز نقضها.

8- و منها قوله عليه السّلام في تلك الرواية أيضا في الصورة الثالثة، قال عليه السّلام: و أمّا الثالثة يا أخا اليهود فإنّ القائم بعد النبيّ صلّی اللّه عليه و آله كان يلقاني معتذرا في كلّ أيّامه و يلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقّي و نقض بيعتي و يسألني تحليله فكنت أقول:

تنقضي أيّامه ثمّ يرجع إليّ حقّي الّذي جعله اللّه لي ...

و لو لم أتّق هذه الحالة- يعني عليه السّلام تفرّق عصبة المسلمين- يا أخا اليهود ثمّ طلبت حقّي لكنت أولی ممّن طلبه لعلم من مضی من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و من بحضرتك ... فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية الّتي لا مخرج للعباد منها و البيعة المتقدّمة في أعناقهم ممّن تناولها ... 2.

فقوله عليه السّلام في أوّلها: «يلقاني معتذرا ... من أخذ حقّي و نقض بيعتي و يسألني تحليله» يدلّ علی أنّ له عليه السّلام حقّ الوفاء بتلك البيعة علی الولاية الّتي بايعه بها أبو بكر

                       

و غيره من أمّة الإسلام يوم الغدير مثلا، فلا محالة تكون البيعة واجبة الوفاء.

كما أنّ قوله عليه السّلام ثانيا: «فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية ... و البيعة المتقدّمة في أعناقهم ممّن تناولها» دليل علی أنّ البيعة توجب الاستحقاق فيجب الوفاء بها و ردّ حقّه إليه عليه السّلام.

9- و منها قوله عليه السّلام في تلك الرواية يذكر بعض ما قاله لأهل الشوری بعد وفاة عمر: ... و أوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم و ذكّرتهم عهد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله إليهم و تأكيد ما أكّده من البيعة لي في أعناقهم دعاهم حبّ الإمارة و ... إلی تناول ما لم يجعل اللّه لهم ... «1».

فتراه عليه السّلام قد جعل البيعة المتقدّمة له زمن الرسول صلّی اللّه عليه و آله وجها من وجوه استحقاقه للولاية و هو لا يكون إلّا إذا كانت البيعة واجبة الوفاء لازمة الرعاية.

و كلامه هذا- كما تری- جعل عهد الرسول عليه بالولاية جنب البيعة و هو دليل علی استقلال كلّ منهما وجها للاستحقاق، و هذا هو الّذي قد نبّهنا عليه كرارا من أنّ فعلية ولايتهم عليهم السّلام غير مشروطة بالبيعة بل هم أولياء الأمر واجبو الطاعة، و البيعة تنعقد مع من هو وليّ واجب الإطاعة و هو لا ينافي أن تكون البيعة نفسها أيضا سببا تامّا لوجوب الوفاء.

10- و منها ما في كنز الدقائق عن ثواب الأعمال للصدوق بإسناده إلی أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام؟ قال: فيها أيدي الناكثين»

. و رواه المجلسي في البحار أيضا «3».

فقد حكم عليه السّلام بأنّ في تلك المدينة الّتي في جهنّم أيدي الناكثين و هو لا يكون إلّا إذا كان النكث حراما ذكر الأيدي فيها دليل علی أنّ عمرة المراد بها نكث البيعة

                       

الّتي تنشأ بالأيدي، فلا محالة يكون نكث البيعة ذنبا يوجب دخول النار.

11- و منها ما رواه في اصول الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال: نزلت في فلان و فلان و فلان، آمنوا بالنبيّ صلّی اللّه عليه و آله في أوّل الأمر و كفروا حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النبيّ صلّی اللّه عليه و آله: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ثمّ آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السّلام، ثمّ كفروا حيث مضی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فلم يقرّوا بالبيعة، ثمّ ازدادوا كفرا بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شي‏ء «1».

فالرواية كما تری قد عدّ عدم الثبات بالبيعة لولاية أمير المؤمنين عليه السّلام زمن الغدير و عدم الوفاء بها كفرا و عدّ الدوام علی هذا النكث و البيعة لغيره عليه السّلام عدم بقاء الإيمان فيهم، فلا محالة يكون الوفاء بالبيعة و الثبات عليها واجبا.

12- و منها قوله صلّی اللّه عليه و آله في جواب عليّ عليه السّلام حيث قال: «فاسأل اللّه أن يعطيها- يعني الشهادة- لي بين يديك» فأجاب صلّی اللّه عليه و آله: فمن يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين؟! «2».

فقد جعل قتال الناكثين من وظائفه عليه السّلام فلا محالة يكون النكث محرّما مجوزا أو موجبا لقتال الناكث.

13- ثمّ إنّه قد روی البحار في باب أمر اللّه و رسوله بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين ... روايات خمس اخری تدلّ علی ذلك، فراجع «3».

فقد تحصّل من جميع ما مرّ وجوب الوفاء بالبيعة و أنّ نقضها و نكثها ذنب عظيم.

و هذه الأدلّة كما عرفت مطلقة لم يقيّد وجوب الوفاء فيها بشي‏ء، إلّا أنّ في رواية رواها البحار عن أمالي الشيخ الطوسي قدّس سرّه تعبيرا ربّما يقال به بتقييد ما لتلك‏

                       

الأدلّة قال: و كتب عليه السّلام إلی أمراء الأجناد:

من عبد اللّه أمير المؤمنين عليّ إلی أصحاب المسالح، أمّا بعد، فإنّ حقّا علی الوالي أن لا يغيّره عن رعيّته فضل ناله و لا مرتبة اختصّ بها و أن يزيده ما قسم اللّه له دنوّا من عباده و عطفا عليهم، ألا و إنّ لكم عندي أن لا أحجبنّ دونكم سرّا إلّا في حرب، و لا أطوي دونكم أمرا إلّا في حكم، و لا اؤخّر لكم حقّا عن محلّه و أن تكونوا عندي في الحقّ سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت لي عليكم البيعة و لزمتكم الطاعة، و أن لا تنكصوا عن دعوة و لا تفرطوا في صلاح، و أن تخوضوا الغمرات إلی الحقّ ... «1». و رواه في قسم الكتب من نهج البلاغة و تمامه «2».

فذيل هذه الفقرات من الكتاب كما تری قد اشترط وجوب البيعة و لزوم الطاعة بأن يعمل وليّ الأمر بالوظائف المذكورة و حيث إنّ أخذ البيعة من الرعية الّتي منها أمراء الأجناد و أصحاب المسالح إنّما هو في أوّل إرادة القيام بالولاية فلا محالة يراد من وجوب البيعة هنا وجوب العمل بها، و يكون قوله: «لزمتكم الطاعة» عطف تفسير له، و عليه فمفهومه أن لا يجب الوفاء بالبيعة مع فقد الشرط المذكور.

أقول: لكنّك خبير بأنّ مفاد الامور المذكورة ليس شيئا أزيد من العمل بما هو وظيفة الوالي، و إذا كان المفروض عصمة هؤلاء الولاة المعصومين فهذا الشرط دائما حاصل مفروض، و ليس مفاد الكتاب تقييدا لتلك المطلقات.

فالمتحصّل من جميع الأدلّة الماضية وجوب الوفاء بالبيعة للأئمّة الولاة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين علی كلّ من بايعهم علی الولاية و لم يستفد من شي‏ء منها اشتراط فعلية ولايتهم و لا وجوب الإطاعة لهم بالبيعة كما عرفت.

و يبقی لنا البحث عن الأمر الثاني و هو أنّه هل الإقدام بالمبايعة لمن هو وليّ الأمر واجب علی الناس شرعا؟ فنقول:

                       

الأمر الثاني: هل يجب علی المسلمين أن يبايعوا من كان من المعصومين عليهم السّلام وليّ أمر الامّة؟

و المراد منه أنّك قد عرفت ثبوت الولاية لإدارة الامّة من اللّه تعالی لكلّ من النبيّ و الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة و السلام، كما عرفت وجوب الإطاعة لهم عليهم السّلام في كلّ ما يرتبط بأمر البلاد و إدارة امور الامّة، كما عرفت عدم اشتراط فعلية ولايتهم و لا وجوب الإطاعة لهم ببيعة المكلّفين معهم عليهم السّلام و المسلمون إذا بايعوا وليّ الأمر منهم فيجب عليهم بسبب البيعة أن يفوا بهذه البيعة، فكلّ هذه الامور ثابتة مفروضة.

 [هل الإقدام بالبيعة واجب علی المسلمين؟]

و كلامنا في هذا الأمر بعد فرض الامور المذكورة يقع في أنّه هل يجب علی كلّ مسلم أن يبايع وليّ الأمر المعصوم عليه الصلاة و السلام أم لا؟ فنقول:

إنّا بعد التتبّع الكثير لم نقف علی دليل عامّ لإثبات هذا المطلب و إنّما وقفنا علی الأمر بالبيعة في بعض الموارد، و يمكن تقسيمه قسمين:

الأول: ما ورد من الأمر ببيعة أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الغدير، فقد مرّ في صحيحة صفوان بن مهران الجمّال المروية في قرب الإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بأنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بعد ما نصبه بالولاية: «ثمّ أمر الناس يبايعون عليّا عليه السّلام فبايعه الناس ... «1». كما مرّ قوله عليه السّلام في مرسل صفوان المرويّ في تفسير العيّاشي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بأنه صلّی اللّه عليه و آله بعد نصبه بالولاية أمر الناس ببيعته و بايعه الناس ... «2».

كما مرّ أيضا ما رواه القمّي في تفسيره عن أبيه مرفوعا عن الصادق عليه السّلام أنّه لمّا نزلت الولاية كان من قول رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بغدير خمّ: سلّموا علی عليّ عليه السّلام بامرة المؤمنين ... «3». فهذه الروايات الثلاث أو الروايتان متضمّنة لأمره صلّی اللّه عليه و آله الناس‏

                       

ببيعتهم لعليّ عليه السّلام بناء علی أنّ التسليم عليه بالإمرة عبارة اخری عن البيعة له بها.

فهذه الروايات متضمّنة لأمر النبيّ صلّی اللّه عليه و آله للناس بالبيعة، و لا محالة تكون عليهم واجبة، إلّا أنّه لا عموم لها لجميع الموارد أوّلا، و يحتمل فيه أن يكون أمرا سلطانيا منه صلّی اللّه عليه و آله ثانيا.

14- و روی الشيخ المفيد قدّس سرّه في أماليه بالإسناد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: إنّ اللّه جلّ جلاله بعث جبرئيل عليه السّلام إلی محمّد صلّی اللّه عليه و آله أن يشهد لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام بالولاية في حياته و يسمّيه بإمرة المؤمنين قبل وفاته، فدعا نبيّ اللّه صلّی اللّه عليه و آله تسعة رهط فقال: إنّما دعوتكم لتكونوا شهداء اللّه في الأرض أقمتم أم كتمتم.

ثمّ قال: يا أبا بكر قم فسلّم علی عليّ بإمرة المؤمنين فقال: أعن أمر اللّه و رسوله؟

قال: نعم، فقام فسلّم عليه بإمرة المؤمنين. ثمّ قال: قم يا عمر فسلّم علی عليّ بإمرة المؤمنين فقال: أعن أمر اللّه و رسوله نسمّيه أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فقام فسلّم عليه. ثمّ قال للمقداد بن الأسود الكندي: قم فسلّم علی عليّ بإمرة المؤمنين، فقام و سلّم و لم يقل مثل ما قال الرجلان من قبله. ثمّ قال لأبي ذرّ الغفاري: قم فسلّم علی عليّ بإمرة المؤمنين، فقام فسلّم عليه. ثمّ قال لحذيفة اليماني: قم فسلّم علی أمير المؤمنين، فقام فسلّم عليه. ثمّ قال لعمّار بن ياسر: قم فسلّم علی أمير المؤمنين، فقام فسلّم عليه. ثمّ قال لعبد اللّه بن مسعود: قم فسلّم علی عليّ بإمرة المؤمنين، فقام فسلّم عليه. ثمّ قال لبريدة: قم فسلّم علی أمير المؤمنين- و كان بريدة أصغر القوم سنّا- فقام فسلّم.

فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: إنّما دعوتكم لهذا الأمر لتكونوا شهداء اللّه أقمتم أم تركتم «1».

و في ذيل صفحة الأمالي: «قال بعض الأعلام: قد سقط من الحديث ذكر تسليم تاسعهم و هو سلمان الفارسي ...».

                       

فهذا الحديث المبارك قد نصّ نفسه أنّ أمره صلّی اللّه عليه و آله كان امتثالا لأمر اللّه تعالی فلا يجي‏ء فيه احتمال أن يكون أمرا سلطانيا بل هو أمر الهي، إلّا أنّ دلالته علی وجوب البيعة لوليّ الأمر مبتنية علی أن يكون هذا التسليم من هؤلاء عليه عليه السّلام بإمرة المؤمنين بيعة منهم له عليها، و إلّا فإن كان تسليمهم كما جاء في الحديث مجرّد شهادة منهم عليها و كان ما قام به النبيّ صلّی اللّه عليه و آله إشهادا لهم عليها ليكونوا شهداء اللّه عليها بعده صلّی اللّه عليه و آله للناس كما صرّح به فيه فليس مفاد الحديث أمرا بالبيعة له عليه السّلام.

مضافا إلی أنّه لا عموم فيه لجميع المسلمين المكلّفين، كما أنّه لا يشمل ولاية غيره من المعصومين عليهم السّلام.

15- و روی صاحب الاحتجاج بالإسناد المذكور فيه إلی علقمة بن محمّد الحضرمي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام خطبة طويلة خطب بها النبيّ صلّی اللّه عليه و آله بغدير خمّ و بلّغ فيها نصب عليّ عليه السّلام بولاية امور الامّة بعده من اللّه تعالی ففي بعض فقراتها:

معاشر الناس، قد بيّنت لكم و أفهمتكم و هذا عليّ يفهمكم بعدي، ألا و إنّي عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلی مصافقتي علی بيعته و الإقرار به ثمّ مصافقته بعدي، ألا و إنّي قد بايعت اللّه و عليّ قد بايعني، و أنا آخذكم بالبيعة له عن اللّه عزّ و جلّ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلی‏ نَفْسِهِ الآية.

ثمّ ذكر صلّی اللّه عليه و آله بعض أحكام اللّه ثمّ قال: فامرت أن آخذ البيعة منكم و الصفقة لكم بقبول ما جئت به عن اللّه عزّ و جلّ في عليّ أمير المؤمنين و الأئمّة من بعده الّذين هم منّي و منه أئمّة قائمة- منهم المهديّ- إلی يوم القيامة الّذي يقضی فيه بالحقّ.

ثمّ ذكر امورا اخر و دعا الناس إلی البيعة كرارا إلی أن قال صلّی اللّه عليه و آله: معاشر الناس ما تقولون؟ فإنّ اللّه يعلم كلّ صوت و خافية كلّ نفس فَمَنِ اهْتَدی‏ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها و من بايع فإنما يبايع اللّه يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. معاشر الناس، فاتّقوا اللّه و بايعوا عليّا أمير المؤمنين، و الحسن و الحسين و الأئمّة كلمة طيّبة باقية، يهلك اللّه من غدر و يرحم اللّه من و في فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلی‏

                       

نَفْسِهِ الآية. معاشر الناس، قولوا الّذي قلت لكم، و سلّموا علی عليّ بإمرة المؤمنين، و قولوا: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ و قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ «1».

فهو صلّی اللّه عليه و آله قد أمر الناس كرارا بأن يبايعوا أمير المؤمنين عليه السّلام بالإمرة علی المؤمنين و عطف عليه سائر الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و صرّح بأنّه صلّی اللّه عليه و آله أمره اللّه تعالی بأخذ البيعة من الناس لعليّ و غيره من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام بإمرتهم و قبول ما جاء به فيهم من اللّه تعالی، و قال: من بايع فإنّما يبايع اللّه و إنّ اللّه يهلك من غدر و يرحم من و فی.

فبهذه التوضيحات ربما يقال بدلالة قوله صلّی اللّه عليه و آله في هذه الخطبة علی أنّ اللّه تعالی أوجب علی المسلمين بيعة عليّ و غيره من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام علی أن يكونوا ولاة أمر الامّة. فالخطبة تامّة الدلالة علی جميع المطلوب.

و قد أخرج عنه كنز الدقائق الفقرة الاولی و الثالثة بتقديم الثالثة في النقل علی الاولی، فراجع «2».

أقول: لكنّ التأمّل في الخطبة المباركة يعطي: أنّ مراده صلّی اللّه عليه و آله من أخذ بيعة الناس له و لهم عليهم السّلام ليس خصوص المبايعة باليد بل المقصود الأصيل هو أن يقرّ الحضّار و يبلّغوا ولاية عليّ عليه السّلام و من بعده من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام إلی سائر المسلمين ممّن غاب عن محضره و استماع خطبته حتّی تتمّ حجّة اللّه و حديث ولايتهم الإلهية الإسلامية لجميع المسلمين بل الناس لكي يقوم أساس الإسلام و نظامه الأصيل علی ما يريده اللّه و إلّا فالبيعة باليد ليست بمراد، بل ربّما أمكن جعل هذه الخطبة بهذا المعنی الّذي ذكرناه دليلا علی أنّه لا يراد بالبيعة في غيرها من الأحاديث أيضا هذا المعنی كما مضی قريب منه ذيل ما قلناه في رواية الأمالي.

                       

و الشاهد علی ما ذكرناه هو ملاحظة ما أفاده صلّی اللّه عليه و آله بعد سطور من الفقرة الثانية و قبل الفقرة الثالث، فقال صلّی اللّه عليه و آله: القرآن يعرّفكم أنّ الأئمّة من بعده ولده و عرّفتكم أنّهم منّي و منه [و أنا منه- خ ل‏] حيث يقول اللّه في كتابه: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ و قلت: «لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما».

... معاشر الناس، إنّكم أكثر من أن تصافقوني بكفّ واحدة و قد أمرني اللّه عزّ و جلّ أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت لعليّ عليه السّلام من إمرة المؤمنين و من جاء بعده من الأئمّة منّي و منه علی ما أعلمتكم أنّ ذرّيّتي من صلبه، فقولوا بأجمعكم: إنّا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلّغت عن ربّنا و ربّك في أمر عليّ و أمر ولده من صلبه من الأئمّة عليهم السّلام نبايعك علی ذلك بقلوبنا و أنفسنا و ألسنتنا و أيدينا، علی ذلك نحيا و نموت و نبعث و لا نغيّر و لا نبدّل و لا نشكّ و لا نرتاب و لا نرجع عن عهد و لا ننقض الميثاق و نطيع اللّه و نطيعك و عليّا أمير المؤمنين و ولده الأئمّة عليهم السّلام الّذين ذكرتهم من ذرّيّتك من صلبه بعد الحسن و الحسين اللذين قد عرّفتكم مكانهما منّي و محلّهما عندي و منزلتهما من ربّي عزّ و جلّ فقد أديّت ذلك إليكم و انّهما سيّدا شباب أهل الجنّة و أنّهما الإمامان بعد أبيهما عليّ و أنا أبوهما قبله.

و قولوا: «أطعنا اللّه بذلك و إيّاك و عليّا و الحسن و الحسين و الأئمّة الّذين ذكرت، عهدا و ميثاقا مأخوذا لأمير المؤمنين من قلوبنا و أنفسنا و ألسنتنا و مصافقة أيدينا من أدركهما بيده و أقرّ بهما بلسانه و لا نبتغي بذلك بدلا و لا نری من أنفسنا عنه حولا أبدا، أشهدنا اللّه و كفی باللّه شهيدا و أنت علينا به شهيد و كلّ من أطاع ممّن ظهر و استتر و ملائكة اللّه و جنوده و عبيده، و اللّه أكبر من كلّ شهيد.

معاشر الناس، ما تقولون؟ ... إلی آخر ما مرّ من الفقرة الثالثة «1».

فهذه العبارة واضحة الدلالة علی إرادة ما استظهرناه منها، و لذلك فقد

                       

عدل صلّی اللّه عليه و آله عن البيعة باليد بمجرّد أن يقولوا و يقرّوا بالسمع و الطاعة بقلوبهم و ألسنتهم إقرارا موافقا للواقع عليه يحيون و يموتون، و لو لا هذا الّذي ذكرناه فاحتمال أن يكون مراده صلّی اللّه عليه و آله أنّ الواجب علی المسلمين هي المبايعة باليد و العدول عنها إلی هذه الاقرارات إنّما هو لعدم إمكانها كثرة الجماعة المخاطبين و وحدة المبايع الّذي هو النبيّ صلّی اللّه عليه و آله و عليّ عليه السّلام احتمال بعيد لا مجال لاحتماله لمن هو عالم بظواهر الكلمات.

و قد عرفت أنّ منها يعلم المراد بالأمر بالبيعة في غيرها من العبارات الماضية و الآتية و غيرها.

القسم الثاني: ما ورد في خصوص البيعة لأمير المؤمنين عليه السّلام عند ما قام بإدارة أمر الأئمّة و هي أيضا موارد:

1- فمنها ما في كتاب له عليه السّلام إلی معاوية أوّل ما بويع له: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلی معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، فقد علمت أعذاري فيكم و إعراضي عنكم حتّی كان ما لا بدّ منه و لا دفع له، و الحديث طويل و الكلام كثير، و قد أدبر ما أدبر و أقبل ما أقبل، فبايع من قبلك و أقبل إليّ في وفد من أصحابك، و السلام» «1».

فهو عليه السّلام كما تری بعد ما بايعه الناس علی الولاية قد أمر في الكتاب أن يأخذ معاوية بيعة من قبله من أهل الشام له عليه السّلام و أن يقبل هو نفسه في وفد من أصحابه الّذين هم حوله و يعينونه في أمر إمارته إليه عليه السّلام.

فقد أوجب عليه السّلام عليه أخذ بيعة الناس له و لازمه أن تجب علی الناس أيضا مبايعته، لكنّه لا عموم فيه بالنسبة إلی غير من قبل معاوية من أهل الشام من المسلمين الساكنين في سائر البلاد الإسلامية، كما لا إطلاق فيه بالنسبة إلی غيره من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام.

و لعلّ الأمر فيه أمر ولائي صدر منه عليه السّلام بالنسبة لمن قبل معاوية لأمور

                       

خاصّة به و بهم، مضافا إلی أنّ المبايعة المذكورة فيه لا يراد منها المبايعة بوضع اليد بنحو خاصّ في يد من يبايعه لبعد المسافة و عدم إمكان إرادة المعنی الحقيقي من البيعة، اللّهمّ إلّا أن يكون عليه السّلام في مقام جعل معاوية نائبا عنه عليه السّلام في هذه الجهة.

2- و منها ما في كتاب له عليه السّلام إلی جرير بن عبد اللّه البجلي بعد ما تأخّر في أخذ البيعة من معاوية: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلی جرير بن عبد اللّه، سلام عليك، أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية علی الفصل و خذه بالأمر الجزم، ثمّ خيّره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، و إن اختار السلم فخذ بيعته و أقبل إليّ، و السلام «1».

فذيل الكتاب- كما تری- أمر جريرا بأخذ البيعة من معاوية له عليه السّلام، فأخذه منه واجب علی جرير، و البيعة من معاوية واجبة عليه.

لكنّه مختصّ بمعاوية و البيعة له و لا عموم فيه لغيره من الأئمّة عليهم السّلام و لا لغير معاوية من سائر الناس، و لعلّ كون معاوية واليا من قبل الخلفاء السابقين و مظنّة لأن يكون بصدد الحرب أوجب عليه البيعة. و بالجملة فلا يستفاد منه عموم أصلا.

علی أنّ بيعته بيعة مع جرير النائب عن وليّ الأمر، مضافا إلی ما عرفت ذيل خبر الاحتجاج من قوّة احتمال أن يكون الواجب و لا سيّما علی مثله إعلام قبول الولاية و إن لم يكن في لباس البيعة باليد.

3- و منها قوله عليه السّلام في كلام له لكليب الجرمي و كان قد أرسله قوم من أهل البصرة لمّا قرب أمير المؤمنين عليه السّلام منها ليعلم لهم حقيقة حاله عليه السّلام مع أصحاب الجمل لنزول الشبهة من نفوسهم، فبيّن عليه السّلام له من أمره معهم ما علم به أنّه علی الحقّ، ثمّ قال عليه السّلام له: بايعني.

فقال: انّي رسول قوم و لا احدث حدثا حتّی أرجع إليهم، فقال عليه السّلام: «أ رأيت لو أنّ الّذين و راءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم و أخبرتهم‏

                       

عن الكلا و الماء فخالفوك إلی المعاطش و المجادب، ما كنت صانعا؟» قال: كنت تاركهم و مخالفهم إلی الكلأ و الماء، قال عليه السّلام: «فامدد إذن يدك، فقال الرجل: فو اللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليّ، فبسطت يدي و بايعته عليه السّلام، و قال:

عليّ عليه السّلام من أدهی العرب» «1».

فأمره بالمبايعة باليد له بعد ما تبيّن له أنّه عليه السّلام علی الحقّ، فإذا أظهر عذرا عنها أصرّ عليه بالمثال حتّی بسط يده و بايعه، فظاهر الأمر هو الوجوب.

لكنّه لا ظهور في كلامه أنّ وجوبه إلهي فلعلّ أمره عليه السّلام أمر سلطاني مع أنّه لا إطلاق و لا عموم له لسائر الناس و لا لغيره من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام مضافا إلی ما مرّ في الخبرين الأوّلين.

4- و منها قوله عليه السّلام في كتاب له إلی معاوية أرسله مع جرير بن عبد اللّه البجلي: «من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلی معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، فإنّ بيعتي و أنا بالمدينة قد لزمتك و أنت بالشام لأنّه با يعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان علی ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يردّ ... و اعلم يا معاوية أنّك من الطلقاء الّذين لا تحلّ لهم الخلافة و لا تعقد معهم الإمامة و لا يدخلون في الشوری، فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإنّ أحبّ الامور إلی قبولك العافية إلّا أن تتعرّض للبلاء فإن تعرّضت له قاتلتك و استعنت باللّه عليك ... و قد أرسلت إليك والي من قبلك جرير بن عبد اللّه البجلي و هو من أهل الإيمان و الهجرة السابقة فبايع ...» «2».

قد يستدلّ به علی أنّه عليه السّلام حكم علی معاوية بالدخول في البيعة الّتي بايعوه بها في المدينة و أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون فقد أمره بالبيعة، و الأمر دليل الوجوب.

إلّا أنّك تعرف ضعف هذا الاستدلال فإنّه ليس في كلامه عليه السّلام أمر ببيعته له‏

                       

و إنّما أمره باتباع بيعة غيره من القوم الّذين بايعوه كما بايعوا قبله الخلفاء الثلاثة، و احتجّ عليه السّلام عليه بهذا و أمره بأن يختاره وليّ الأمر و يدخل فيما دخل فيه غيره من المسلمين و إلّا استعان اللّه و حاربه، فليس المأمور به من البيعة بشي‏ء.

نعم قوله عليه السّلام في آخر الكتاب: «فبايع» أمر له بالبيعة و هو حجّة في الوجوب، إلّا أنّه مع عدم شموله لغيره من الامّة و لا لسائر الأئمّة عليهم السّلام تأتي فيه أيضا الشبهات الاخر الّتي مرّت في سابقه، فتذكّر.

هذه عمدة الروايات الّتي وقفنا عليها ممّا قد يمكن الاستدلال بها علی وجوب البيعة، و قد عرفت أنّ التأمّل فيها بقسميها يقتضي عدم الجزم بتمامية دلالة شي‏ء منها علی وجوب البيعة بنحو الإطلاق بل أصلا.

ثمّ إنّ هنا نكتة يجب التنبّه لها و هي: أنّه قد يقال: إنّه بناء علی قبول تماميّة دلالة هذه الأخبار علی وجوب البيعة فلا ينبغي الشكّ في أنّها مطلقة من حيث أيّ شرط يفرض فإنّ تمام موضوعها هو وليّ الأمر الإسلامي بلا أيّ قيد آخر، إلّا أنّ هنا بعض الأخبار الّذي يدلّ علی اشتراط وجوبها بعمل وليّ الأمر بوظائفه الدينية، فإن لم يعمل بها فلا تجب بيعته.

و هذا هو ما مرّ من كلام عليّ عليه السّلام في كتاب كتبه إلی أصحاب المسالح، قال فيه: ... ألا و إنّ لكم عندي أن لا أحجبنّ دونكم سرّا إلّا في حرب و لا أطوي دونكم أمرا إلّا في حكم و لا اؤخّر لكم حقّا عن محلّه و أن تكونوا عندي في الحقّ سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت لي عليكم البيعة و لزمتكم الطاعة ... «1».

فهو كما تری قد شرط وجوب البيعة عليهم بأن يعمل هو عليه السّلام تلك الأعمال الّتي هي نماذج من وظائف الوالي الإسلاميّ فيكون مفهومه أنّ البيعة ليست بلازمة مع انتفاء هذا الشرط، فالخبر دليل علی اعتبار هذا الشرط في وجوب‏

                       

البيعة و به يقيّد إطلاق ما سبق من الأدلّة.

لكنّك خبير بأنّ البيعة أمر يتحقّق أوّل أمر يقوم وليّ الأمر بأمر الولاية فلا محالة إذا فرض وجوبها، فأصحاب المسالح المخاطبون بالكتاب قد بايعوه عليه السّلام أوّل الأمر، و عليه فالمراد من وجوب البيعة هنا هو لزوم الطاعة الّذي قد عطف عليه، و حاصل مفاده أنّ أثر البيعة الّذي قد مرّ أنّه وجوب الوفاء بها مشروط بعمل الوالي بوظائف الولاية و قد عرفت أنّه متحقق في الأئمّة الولاة المعصومين عليهم السّلام.

و يمكن الاستدلال له بالكتاب الكريم و بالسنّة المعتبرة:

أمّا الكتاب فإنّ قوله تعالی في سورة الأحزاب: النَّبِيُّ أَوْلی‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إلی آخره و في سورة المائدة: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ بل و قوله تعالی: ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في آية الغدير بعد ملاحظة الأخبار القطعية الشارحة له يدلّ بوضوح علی ثبوت منصب الولاية الإلهية علی المسلمين للنبيّ و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، و ولاية امورهم لا تتحقّق إلّا إذا كان إلی الوليّ اختيار أخذ التصميم المناسب في كلّ ما

                       

يرتبط بهم سواء كان ممّا يرجع إلی أنفسهم كتأسيس إدارة القضاء و نصب القاضي و تأسيس سائر الإدارات اللازمة أو الراجحة و نصب مسئوليها و تعيين وظيفة كلّ منها أم كان راجعا إلی بلادهم و أمكنتهم كتوسعة الطرق فيها و فيما بينها و إلی الممالك الخارجة عن سيطرة أمرهم.

و أمّا السنّة فيدلّ عليه بهذا التقريب كلّ ما دلّ منها علی ثبوت عنوان الولاية لهم أو ما إليها ككون الإمام أو النبيّ قيما من اللّه تعالی علی الامّة المسلمة أو راعيا لهم، و هي كما تعلم ممّا مرّ روايات عديدة متواترة نذكر هنا انموذجا منها:

1- فمنها ما رواه الكافي بسنده الصحيح عن الفضلاء زرارة و الفضيل بن يسار و بكير بن أعين و محمّد بن مسلم و بريد بن معاوية و أبي الجارود جميعا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أمر اللّه عزّ و جلّ رسوله بولاية عليّ و أنزل عليه إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ و فرض ولاية اولي الأمر فلم يدروا ما هي، فأمر اللّه محمّدا صلّی اللّه عليه و آله أن يفسّر لهم الولاية كما فسّر لهم الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ، فلمّا أتاه ذلك من اللّه ضاق بذلك صدر رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و تخوّف أن يرتدّوا عن دينهم و أن يكذّبوه، فضاق صدره و راجع ربّه عزّ و جلّ، فأوحی اللّه عزّ و جلّ إليه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فصدع بأمر اللّه تعالی ذكره فقام بولاية عليّ عليه السّلام يوم غدير خمّ، فنادی الصلاة جامعة و أمر الناس أن يبلّغ الشاهد الغائب ...» «1». و دلالتها واضحة.

و الأخبار الواردة بهذا العنوان في قصّة الغدير كثيرة متواترة قد مرّ ذكرها و منها صحيحة الخصال التي نقلنا عين عبارتها.

                       

2- و منها ما رواه الكليني أيضا في الصحيح عن إسحاق بن غالب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في خطبة له يذكر فيها حال الأئمّة عليهم السّلام و صفاتهم قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ أوضح بأئمّة الهدی من أهل بيت نبيّنا عن دينه ... فلم يزل اللّه تبارك و تعالی يختارهم لخلقه من ولد الحسين عليه السّلام من عقب كلّ إمام، يصطفيهم لذلك و يجتبيهم و يرضی بهم لخلقه و يرتضيهم، كلّما مضی منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماما علما بيّنا و هاديا نيّرا و إماما قيما و حجّة عالما، أئمّة من اللّه يهدون بالحقّ و به يعدلون، حجج اللّه و دعاته و رعاته علی خلقه، يدين بهديهم العباد ... فإذا انقضت مدّة والده ... و بلغ منتهی مدّة والده فمضی و صار أمر اللّه إليه من بعده و قلّده دينه و جعله الحجّة علی عباده و قيّمه في بلاده و أيّده بروحه ... و جعله حجّة علی أهل عالمه و ضياء لأهل دينه و القيّم علی عباده رضي اللّه به إماما لهم ... الحديث «1».

فهذه الصحيحة كما تری قد نصّت مرّات ثلاث بأنّ الإمام قيّم من اللّه تعالی علی عباده و مرّة واحدة بأنّ الأئمّة رعاة اللّه علی خلقه و لا محالة كلّ إمام فهو راع علی خلق اللّه تعالی. و كون أحد قيّما علی جمع يقتضي أن يكون إليه إدارة امورهم و بيده و عليه أخذ التصميم المناسب الموافق لمصلحتهم لهم و أن يكون إليه إدارة أمر بلادهم و مملكتهم. و بعبارة اخری مقتضاه أن يكون إليه كلّ ما يرتبط بهم و ببلادهم و مملكتهم. و كما أنّ كون الإمام راعيا علی الخلق يقتضي أن يكون إليه و عليه كلّ ما يرتبط بحياتهم في داخل مملكتهم و بلادهم أو يرتبط بالتقاء أهل سائر الممالك و البلاد غير الإسلامية كما في راعي قطيع غنم بعينه.

و بالجملة: فالولاية و كونه قيّما أو راعيا علی العباد يقتضي أن يكون إليه و عليه كلّ ما يرتبط بهم داخل بلادهم و خارجها.

                       

و الروايات المثبتة لولاية الأئمّة عليهم السّلام- كما أشرنا إليها- كثيرة متواترة. كما أنّ هنا بعض آيات اخر و طوائف اخری من الروايات دالّة علی المطلوب اكتفينا بما ذكرنا اختصارا، و الطالب يرجع إلی ما مرّ من أدلّة إثبات ولايتهم عليهم السّلام.

هذا بالنسبة إلی بيان مقتضی الدليل الواحد الإجمالي.

و أمّا التعرّض لخصوص الموارد من هذه الأمور:

فنذكر عمدتها في ضمن فصول:

                       

الفصل الأوّل في أنّ لوليّ الأمر جعل قوانين حكومية و أنّه يجب اتّباعها

توضيح المقال في هذا الفصل أنّه لا ريب في أنّ اللّه تعالی قد أنشأ علی الناس أحكاما تكليفية مختلفة من الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة و الإباحة و وجودها، و وجوب امتثال الواجب و الحرام منها واضح، فهنا نقول: إنّه كثيرا ما يحدث في نظر وليّ الأمر مصالح أو مفاسد يؤدّي نظره في مقام إدارة امور الجامعة إلی أن يجعل قوانين و أحكاما إلزامية ليس منها عين و لا أثر في الأحكام الدينية الإلهية.

فيری مثلا أنّ علی كلّ أحد من الرعايا إذا أراد السفر إلی بلد غير إسلامي أن يأخذ سجّلا رسميا يذكر فيه سفره بل و الإذن في سفره و أنّ عليهم أن يسجّل في هذا السجل وروده و خروجه. أو يری مثلا أنّ سائق السيارات عليهم أن يسيروا من يمين الشوارع و أن لا يسيروا في بعض ملتقيات الطرق إلّا إذا أذنت لهم المصابيح المصفرّة. أو يری أن يوسّع الشوارع الداخلة في البلاد و إن كانت التوسعة لأجل ترفيه السكنة و ربما يلزمها التصرّف في مال من لا يرضی به. أو يری أن يمنع استيراد أمتعة البلد الفلاني أو شركة خاصّة، إلی غير ذلك ممّا يحدث عصرا بعد عصر و أيّاما بعد أيّام.

فنبحث في هذا الفصل عن جواز إقدامه بوضع هذه القوانين أوّلا، ثمّ عن‏

                       

وجوب امتثال الناس لها شرعا ثانيا، فنقول:

أمّا أصل جواز إقدامه بوضعه فالظاهر أنّه لا ريب فيه، و ذلك أنّ المفروض- كما مرّ- أنّ اللّه تعالی جعله من عند نفسه وليّا علی الامّة و قيّما لهم و راعيا، و دلالة الآيات المتعدّدة و الروايات القطعية المتواترة علی ثبوت الولاية و القيمية و الراعية له واضحة، و من المعلوم أنّ أعمال هذه الولاية قد يؤدّي إلی جعل هذه القوانين و الإلزامات فيما يراه الوليّ لازما و لم تتعرّض لشي‏ء منها الأدلّة الإلهيّة نفيا و إثباتا، فحيث إنّ الولاية علی الامّة قد جعلها اللّه تعالی و أخذ هذه التصميمات من مقتضيات أعمال الولاية فلا محالة يقتضي مشروعية ولايته أن يشرّع له جعل هذه القوانين، و كيف لا؟! و هذه القوانين إجراء عملي لتلك الولاية و من اللوازم غير المنفكّة عنها، فمادّة الولاية و مفهومها و إن لم يدخل فيه جعل هذه القوانين إلّا أنّ لازم أعمالها و إجرائها الخارجي جعل هذه القوانين فلا ينفكّ جواز جعلها عن فرض مشروعية أصل الولاية.

فإن قلت: إنّ ما ذكرت إنّما هو مقتضی إطلاق أدلّة الولاية و الرعي و القيمية إلّا أنّ هنا أدلّة توجب علی الوليّ الاستشارة فهذه الأدلّة تمنع جواز إقدام الوليّ بجعلها بل يوجب عليه اللجأ إلی المشاورة.

قلت: (اوّلا) إنّ حديث المشاورة في الامور الجمعي إنّما ذكر في القرآن الشريف مرّتين:

فتارة في سورة الشوری في مقام عدّ أوصاف المؤمنين الّذين قال اللّه تعالی فيهم:

وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقی‏ فعدّ منها: وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُوری‏ بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «1» و هو كما تری لأمور المؤمنين أنفسهم الجارية بينهم و لا نظر له إلی أمر وليّ الأمر مع أنّه لا يدلّ في مورده علی أزيد من استحسان هذه الصفة لا وجوبها، و لم يقل أحد أيضا- حسب الظاهر- بوجوبها.

                       

و اخری ذكرت المشاورة و الأمر بها في سورة آل عمران، قال اللّه تعالی خطابا للنبيّ الأكرم صلّی اللّه عليه و آله: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَی اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «1» فهذه الآية المباركة قد تضمّنت أمر اللّه تعالی له صلّی اللّه عليه و آله بأن يشاور المؤمنين، و لا محالة تكون مشاورته في الامور الّتي بيده بمقتضی ولايته، فلذلك يمكن أن يستدلّ به لوجوب مشورة الوالي للأمّة، لكنّ الإنصاف أنّ دلالته علی الوجوب غير تامّة، و ذلك أنّ هذه الآية- بحسب ما يستفاد من التفاسير- قد وردت ضمن الآيات الواردة في غزوة احد و بعد تمامها، و هذه الغزوة قد ابتليت ابتداء بعدم موافقة عبد اللّه بن ابيّ بالخروج لها خارج المدينة و لذلك لم يخرج هو و قومه فيها، كما أنّها قد انتهت بشهادة سبعين من المؤمنين و منهم حمزة سيّد الشهداء و بهزيمة جند الإسلام و وقوع ضربات عديدة شديدة علی أمير المؤمنين عليه السّلام بل بوقوع جراحات علی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و إشاعة أنّه قد قتل، و قد نشر المنافقون اكذوبات كثيرة و لاموا المؤمنين و خلف الشهداء بها، ففي هذه الأرضية و الوضعية نزلت الآية المباركة.

فصدرها كما تری تكريم و تحسين للين رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و عدم كونه غليظ القلب مع ذكر أنّ هذه الصفة الكريمة من مواهب اللّه عليه و أنّها الموجبة لاجتماع المسلمين حوله و عدم انفضاضهم.

و بعد ذكر هذه الصفة الكريمة و فائدتها عطف عليها و فرّع بفاء التفريع أمره بالعفو عنهم في ما فعلوه من السيّئات و بالاستغفار من اللّه لهم و بالمشاورة لهم، فهذه المشاورة مع هؤلاء الأشخاص هي كمال إكرام لهم من اللّه و من سيّد الأولياء و لعلّها كانت بهدف حصول الوفاق و الاتصال بعد تلك الحوادث، و لا عموم للآية يدلّ علی وجوبها في جميع الموارد، بل لا يبعد أن ينكر ظهور الأمر في الوجوب‏

                       

في نفس المورد و ذلك لمّا مرّ من أنّه تفريع علی أعمال لينه، فيقول اللّه تعالی: إنّك حيث كنت ليّنا غير غليظ القلب فمقتضی هذه الكرامة و اللين أن تعفو عن سيّئاتهم و أن تشاورهم في الامور. و هذا التعبير لا يقتضي من الحسن المجتمع مع الندب.

 (و ثانيا) لو سلّمنا وجوب مشورة الوليّ للعقلاء من المؤمنين قبل العزم و التصميم فغاية الأمر اشتراط تصميماته المأخوذة بأن تكون بعد المشاورة، و أمّا صحّة تصميماته و عمومها لجميع الموارد و الامور الّتي يراها و لو عقيب المشاورة مصلحة للأمّة فالآية لا تنافيها، بل كما عرفت فمقتضی كونها من لوازم الولاية أنّ هذه التصميمات كغيرها ممّا فيه مصلحة الامّة أمرها بيده.

ثمّ إنّه كما أنّ من اختيارات بل و من وظائف وليّ الأمر أن يجعل التكاليف المذكورة فهكذا له أن يؤسّس دوائر و مؤسسات كلّية و جزئية رئيسية و تابعة كوزارة الصناعة أو الزراعة أو التجارة أو الدفاع أو الطرق و المواصلات و كمركز التقنين و القضاء و كالإدارات و الشعب الجزئية التابعة لها فإنّ تأسيسها مصداق أعمال الولاية الثابتة له و بعد ما أسّسها ربما ينشئ أحكاما خاصّة لهذه الإدارات و المؤسسات رئيسها و أتباعها ممّا يحتاج إليه و لم ينصّ عليه من الشارع الأقدس لا كتابا و لا سنّة فلا ينبغي الريب في أنّ أعمال الولاية بنحو صحيح مطلوب لا يكون إلّا به و جعلها مقتضی الولاية و لازمها، و لا محالة يكون جعلها من اختياراته أو من وظائفه.

فلوليّ الأمر إنشاء وظائف لعامّة المسلمين أو جمع خاصّ منهم كسائقي السيارات، و له أيضا إنشاء وظائف خاصّة لمتولّي الامور في هذه المراكز الكلّية أو الجزئية حسب ما يقتضيه شغله المحوّل إليه.

أمّا وجوب امتثال الناس لهذه الأحكام شرعا فبعد ما أنشأ وليّ الأمر حكما من هذه الأحكام فعلی الامّة أن يطيعوه و تكون إطاعة هذه الأحكام أيضا عليهم واجبة كإطاعة الأحكام الإلهية الّتي بيّنها الكتاب أو قامت بها السنّة.

و يدلّ علی وجوب إطاعتها أمران:

                       

أحدهما: أنّه مقتضی كونه وليّ أمرهم أو القيّم عليهم أو الراعي لهم من اللّه الذي قد عرفت قيام أدلّة معتبرة قطعية علی ولايته و قيام دليل معتبر صحيح السند علی أنّه من اللّه قيّم عليهم و راع لهم، و ذلك أنّ الولاية و القيمية إنّما هي بأن تكون إدارة امور المولّی عليه أو من هو قيّم عليه تحت نظر الوليّ و القيّم و لا يتحقّق هذا المعنی خارجا إلّا بأن يكون ما يراه الوليّ فيه لازم التحقّق و إلّا فلا تكون إدارة و لا قيمومة، و هكذا معنی الرعي فإنّه لا يتحقّق إلّا بأن يأخذ الراعي تصميمه المناسب و يتحقّق خارجا تصميمه المأخوذ.

و بالجملة: فمقتضی كلّ من هذه المعاني أن يكون جميع ما يصمّم عليه لازم الرعاية، فأحكامه المجعولة أيضا لا بدّ و أن تكون واجبة الإطاعة.

و ثانيهما: أنّه يدلّ عليه جميع ما مرّ من الأدلّة المتعدّدة المعتبرة الدالّة علی وجوب إطاعة وليّ الأمر من الكتاب و السنّة.

فمثلا قوله تعالی: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» يدلّ علی وجوب إطاعة الرسول و من كان وليّ الأمر، و قد مرّت دلالة روايات عديدة معتبرة بأنّ المراد من اولي الأمر هو الأئمّة المهديون الّذين هم أيضا كرسول اللّه اولي أمر المسلمين و إطاعة كلّ منهم و إن كانت ربما يتصوّر لها فردان إطاعة فيما يبيّن من أحكام اللّه الإلزامية من الواجبات و المحرّمات و إطاعتهم فيما يأمر به أو ينهی عنه نفسه و لو سلّم انعقاد هذا الإطلاق للآية المباركة فدلالتها علی وجوب الإطاعة في القسم الثاني هي المتيقّنة فإنّها إطاعة نفسه، و إلّا فإطاعة الإلزامات الشرعية ربما يمكن دعوی أنّها إطاعة اللّه لا إطاعة وليّ الأمر، و لعلّ سرّ تغيّر التعبير و تكرار لفظة «أطيعوا» في الآية الشريفة هو إرادة خصوص إطاعة طلبات أنفسهم، و كيف كان فدلالتها علی وجوب إطاعة أولياء الأمر في أوامر أنفسهم هي المتيقّنة كما لا يخفی.

                       

و قد قامت روايات متعدّدة واضحة الدلالة أيضا علی وجوب إطاعة اولي الأمر إمّا في بيان أنّ المعصومين هم المراد باولي الأمر المذكور في الآية و إمّا في بيان وجوب طاعتهم ابتداء.

1- ففي صحيحة أبي بصير المروية في اصول الكافي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فقال عليه السّلام: نزلت في عليّ بن أبي طالب و الحسن و الحسين عليهم السّلام ...

فلمّا قبض رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله كان عليّ أولی الناس بالناس لكثرة ما بلّغ فيه رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و إقامته للناس و أخذه بيده، فلمّا مضی عليّ لم يكن يستطيع عليّ عليه السّلام و لم يكن ليفعل أن يدخل محمّد بن عليّ و لا العبّاس بن عليّ و لا واحدا من ولده إذا لقال الحسن و الحسين عليهما السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالی أنزل فينا كما أنزل فيك فأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك و بلّغ فينا رسول اللّه كما بلّغ فيك و أذهب عنّا الرجس كما أذهب عنك، فلمّا مضی عليّ عليه السّلام كان الحسن عليه السّلام أولی بها لكبره، فلمّا توفّي لم يستطع أن يدخل ولده و لم يكن ليفعل ذلك و اللّه عزّ و جلّ يقول:

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فيجعلها في ولده إذا لقال الحسين عليه السّلام: أمر اللّه بطاعتي كما أمر بطاعتك و طاعة أبيك و بلّغ فيّ رسول اللّه كما بلّغ فيك و في أبيك و أذهب اللّه عنّي الرجس كما أذهب عنك و عن أبيك، فلمّا صارت إلی الحسين عليه السّلام لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدّعي عليه كما كان هو يدّعي علی أخيه و علی أبيه عليهم السّلام لو أراد أن يصرفا الأمر عنه و لم يكونا ليفعلا.

ثمّ صارت حين أفضت إلی الحسين عليه السّلام فجری تأويل هذه الآية: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ ثمّ صارت من بعد الحسين لعليّ بن الحسين ثمّ صارت من بعد عليّ بن الحسين إلی محمّد بن عليّ عليهم السّلام، و قال:

الرجس هو الشكّ، و اللّه لا نشكّ في ربّنا أبدا «1».

بازدید 3397
محتوای بیشتر در این بخش: « قسمت 10 قسمت 12 »
کلیه حقوق این سایت متعلق به مرکز پژوهشی مبنا است